فصل: سورة سبأ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وفي هذا الوقت بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر. فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين. وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات، وينشرون الأكاذيب، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم، ويسايرهم في بعض ما يروجون. فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى عليه السلام ويوجههم إلى تسديد القول، وعدم إلقائه على عواهنه، بغير ضبط ولا دقة؛ ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم:
{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}..
ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى؛ ولكن وردت روايات تعينه. ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن. فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وقد ضرب بني إسرائيل مثلاً للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة. فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم، وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلاً صارخاً للانحراف والالتواء.
وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، {وكان عند الله وجيهاً} ذا وجاهة وذا مكانة. والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذباً وبهتاناً.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه.
ويوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه؛ ومعرفة هدفه واتجاهه، قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه؛ وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث. ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح. فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد. والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون. ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.
{ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}..
والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله. والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة. والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه. وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة. فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق من يشاء بغير حساب.
ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه. وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال. والتي أخذها على عاتقه، وتعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد:
{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}..
إن السماوات والأرض والجبال التي اختارها القرآن ليحدث عنها هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئاً صغيراً ضئيلاً. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءاً من ثانية؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبداً. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملاً..
وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة الله بلا إرادة منها.
وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب. وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء.

.سورة سبأ:

.تفسير الآيات (1- 9):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية: توحيد الله، والإيمان بالوحي، والاعتقاد بالبعث. وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية. وبيان أن الإيمان والعمل الصالح لا الأموال ولا الأولاد هما قوام الحكم والجزاء عند الله. وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله؛ وما من شفاعة عنده إلا بإذنه.
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة، وأساليب شتى؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث يقول: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم}..
وعن قضية الجزاء يقول: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم}..
وفي موضع آخر قريب في سياق السورة: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد}.
ويورد عدة مشاهد للقيامة، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب} وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}..
ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة: {قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}..
ويرد قرب ختام السورة: {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب} وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله {الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير}.
ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له، وعجزهم عن معرفة موته: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} وقوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد}.. {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون} ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض: قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله. وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون. وما وقع لهؤلاء وهؤلاء. وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد.
هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى، تعرض في كل سورة في مجال كوني، مصحوبة بمؤثرات منوعة، جديدة على القلب في كل مرة. ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب. وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة. وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة. وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة.
وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود.
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها}.. {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}..
والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب}..
والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون...} إلخ والمكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة. حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسفلنا..
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط؛ لتيسير عرضها وشرحها. وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً.. وهذا هو طابع السورة الذي يميزها..
تبدأ السورة بالحمد لله، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة، وهو الحكيم الخبير. وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين، عن علم دقيق. وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق. وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم.
وبذلك ينتهي الشوط الأول.
فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله. غير متبطرين ولا مستكبرين، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين، ويستفتونهم في أمر الغيب. وهم لا يعلمون الغيب. وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون.. وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر. قصة سبأ. وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} وذلك أنهم اتبعوا الشيطان، وما كان له عليهم من سلطان، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين!
ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله. وهم {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله ولو كانوا من الملائكة فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق.. ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض. والله مالك السماوات والأرض، وهو الذي يرزقهم بلا شريك.. ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون. ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء. {كلا بل هو الله العزيز الحكيم} والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة، وموقفهم منها، وموقف المترفين من كل دعوة، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد. ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين. كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين.. ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل. وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى، وليس بكاذب ولا مجنون.. ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة. وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية: {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب} وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف.